التراث الجغرافي الإسلامي يقصد به ما خلّفه المسلمون من إنجازات في مجال الجغرافيا. وجاءت هذه الإنجازات نتاج جهود دامت قروناً طويلة. وبلغت هذه الإنجازات ذروتها في الفترة من القرن الثالث حتى الخامس الهجري (التاسع حتى الحادي عشر الميلادي).كتب لاروس الفرنسي في دائرة معارفه عن الجغرافيا الإسلامية فقال: "إذا أراد القارئ أن يجد في القرن الحادي عشر عجيبة من العجائب الجغرافية، فلا يبحثن عنها في أوروبا التي صارت إذ ذاك بربرية، ولكن ليبحث عنها عند العرب". يتسم التراث الجغرافي الإسلامي بأنه عالمي الصبغة. أسهم في إثرائه علماء من شتى الأقطار الإسلامية. ويضم هذا التراث ماكان لدى الشعوب التي دخلت في دين الله، بحيث لا يتعارض مع الإسلام، إضافة إلى ما ترجمه علماء المسلمين من كتب اليونانيين والرومان والهنود وغيرهم، إلى جانب ما ابتدعه العلماء المسلمون بفضل الروح الإسلامية التي ملأتهم حماسًا، وشجعتهم على طلب العلم. إرهاصات الفكر الجغرافي العربي قبل الإسلام اهتمام العرب قبل الإسلام بما يُحيطهم من مظاهر جغرافية أمر بدهي؛ ذلك أن طبيعة حياتهم اعتمدت على الترحال رعيًا، وتجارة، مما فرض عليهم أن يعرفوا المسالك والدروب المختلفة، وأماكن عيون الماء وبطون الأودية. ولما كانت معظم أسفارهم بالليل؛ فإنهم اعتمدوا على الاهتداء بالقمر والنجوم. وساعدهم على ذلك صفاء سمائهم. وكان للعرب معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها. ولقد اهتموا بالرياح والأمطار لأهميتها القصوى في حياتهم التي تعتمد على الأعشاب في الرعي. وكانوا يتخوفون من الرياح الشمالية بسبب شدة برودتها، ولأنها تُنذر بالقحط، ويبتهجون إذا هبت الصَّبا، وهي التي تجيء من مطلع الشمس. صاغ العرب معارفهم الجغرافية في شعرهم. والشعر الجاهلي من أصدق الوثائق التي يمكن الاعتماد عليها في دراسة ظروف بلاد العرب الجغرافية، ولاسيما فيما يتعلق بالأعلام الجغرافية وأسماء الأماكن. وكان البدو كثيرًا ما يسترشدون بأبيات الشعر وما بها من أعلام جغرافية، ليتبينوا طريقهم في شبه الجزيرة الواسعة. وساعدتهم على ذلك قدرتهم على حفظ الشعر عن ظهر قلب، وبذلك أصبح الشعر في هذا المجال أشبه بالخريطة اللفظية، ويذكر كراتشكوفسكي أن ذكر المواضع في الشعر العربي كثر وروده بصورة ربما كانت الوحيدة من نوعها في الأدب العالمي. أثر الإسلام في إثراء الفكر الجغرافي اهتم الإسلام بالعلم عمومًا، وحث على السعي في طلبه. وفي ظل الإسلام ازدهرت سائر أنواع المعرفة بصفة عامة والجغرافيا بصفة خاصة؛ ذلك لأن كثيرًا من العبادات في الإسلام يرتبط بتحديد الأوقات مثل الصلاة والصوم، وتحديد الاتجاهات مثل الصلاة. وقد ساعد الحج على تلاقي الشعوب الإسلامية، وتبادل المعرفة الجغرافية. كما أدت حركة الفتوح الإسلامية وما تطلبه ذلك من إنشاء جهاز للبريد ومد شبكة للطرق، إلى ظهور كتب عديدة ذات صبغة جغرافية، تعالج موضوع المسالك والممالك لكل من: ابن خُرداذبُهْ والإصطخري وابن حوقل وغيرهم. كان للقرآن الكريم دور مهم في إثراء الفكر الجغرافي؛ لأنه وجّه أنظار المسلمين إلى التأمل فيما خلق الله من ظواهر كونية. كما أن ذكره لبعض الأماكن والأقوام مثل كهف الرقيم ويأجوج ومأجوج، دفع بعض المسلمين للبحث عن هذه الأماكن، مثل رحلة عبادة بن الصامت إلى بلاد الروم للبحث عن أصحاب الكهف، ورحلة سلام الترجمان في القرن الثالث الهجري إلى أرمينيا وبلاد الخزر وبحر قزوين للبحث عن سد يأجوج ومأجوج. مازال معين القرآن الكريم في مجال الجغرافيا ثراً لا ينضب، فها هو ذا بوكاي العالم الفرنسي الكبير، يشير إلى أن فعل يسبحون في قوله تعالى: ﴿,وكلٌّ في فلك يسبحون﴾, يس:40. هو أصدق الأفعال التي تصف الحركة في الفضاء. ولا يمكننا أن نفهم أن رجلاً في القرن السابع الميلادي، مهما كان واسع العلم في عصره، بإمكانه أن يتصورها ! وبوكاي بقوله هذا، يؤكد أن القرآن من عند الله. كما أن اتساع الكون حدث عظيم اكتشفه العلم الحديث من تتبّع صور المجرات، وقد تعرض القرآن الكريم لذلك منذ أكثر من أربعة عشر قرناً في قوله تعالى: ﴿,والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لمَوسِعون﴾, الذاريات: 47. المجالات الجغرافية التي كتب فيها المسلمون أطلق المسلمون أسماء عديدة على جوانب الفكر الجغرافي منها: علم تقويم البلدان، والمسالك والممالك، وصورة الأرض، وعلم الأطوال، والعروض، وصور الأقاليم، وعلم البرود، وعلم عجائب البلدان. وقد استخدم المسلمون كلمة جغرافيا أول الأمر للدلالة على كتاب بطليموس، ولم تُستخدم بمعنى علم الجغرافيا إلا في رسائل إخوان الصّفا في القرن الرابع الهجري، وفُسرت على أنها صورة الأرض. ولم تقتصر كتابات المسلمين في الجغرافيا على مجالات محددة، بل امتدت لتشمل مجالات عديدة ومتنوعة. ولقد بدأت كتابات الجغرافيين المسلمين بالاعتماد على المعرفة الجغرافية القديمة في شبه الجزيرة العربية، وما كان لدى الشعوب التي دخلت الإسلام من عرب وفرس وهنود. كما اعتمدت على الترجمة من مصادر مختلفة يونانية وفارسية وهندية. ولم تكن أعمال العرب مجرد ترجمة لأعمال غير عربية سابقة، كما يدعي بعض المستشرقين، وإنما صحّح العرب كثيرًا من الأخطاء، وأضافوا كثيرًا من الملاحظات. وعمومًا يمكن أن نُقسم التراث الجغرافي الإسلامي من حيث أصالته إلى نمطين على النحو التالي: أ- نمط اتبِّاع حذا فيه المسلمون حذو الكتب، التي ترجموها أو نقلوا عنها، ومن أمثلة ذلك: الجغرافيا الفلكية والإقليمية والبحرية. ب- نمط إبداع ابتكره الجغرافيون المسلمون، وأظهروا فيه أصالتهم مثل: المعاجم الجغرافية، والجغرافيا اللغوية، والجغرافيا الدينية أو الروحية، وجغرافية المدن والخرائط. ومن أهم ما يميز الكتابات الجغرافية عند المسلمين أنها تتصف بالشمولية؛ بحيث يمكن تصنيفها وفق المجالات التي تناولتها كتابات المسلمين الجغرافية بصفة عامة. الجغرافيا الفلكية. من نماذجها كتب الزّيجات أو الأزياج وهي الجداول الفلكية مثل: الزِّيج الصابي لمحمد بن جابر بن سنان، وكتاب المجسطي لأبي الوفاء البوزجاني وكتاب مفتاح علم الهيئة الذي ذكر فيه البيروني في القرن الرابع الهجري: "أن الأرض متحركة حركة الرحى على محورها". الجغرافيا الإقليمية. ومن نماذجها كتاب جزيرة العرب للأصمعي (122، 216هـ)، وكتاب صفة جزيرة العرب للهمداني (توفي سنة 334هـ، 945م)، والمسالك والممالك لابن خرداذْبه (توفي سنة 300هـ، 912م)، وأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي (توفي سنة 390هـ، 999م). جغرافية الرحلات. مثل رحلات المسعودي (توفي في القرن الرابع الهجري)، ورحلة ابن جُبير في القرن السادس الهجري، ورحلة ابن بطوطة (قطع فيها آلاف الكيلومترات) في القرن الثامن الهجري. المعاجم الجغرافية. ومنها مُعجم ما استعجم للبكري في القرن الخامس الهجري، وهو أول معجم ألفبائي جغرافي في العالم، ومعجم البلدان لياقوت الحموي (توفي في القرن السابع الهجري) وتقويم البلدان لأبي الفداء. الجغرافيا الطبيعية. كتب الجغرافيون المسلمون في كل فروع الجغرافيا الطبيعية. وسبق المسعودي برأيه عن مراحل الأنهار (الشباب ـ الهرم ـ الحياة ـ الموت ـ النشور) الجيمورفولجي الأمريكي المشهور وليم موريس ديفز بتسعة قرون. وكتب الجغرافيون المسلمون عن المناخ (علم الأنواء)، وعن الجغرافيا الحيوية، مثل كتاب النبات لأبي سعيد الأصمعي وعجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني، (توفي في القرن السابع الهجري). وتناول الجغرافيون المسلمون كذلك الكتابة عن جغرافية البحار والمحيطات، ومن أمثلة ذلك، ما خلّفه أحمد بن ماجد في علم البحر والملاحة (عُثر على نحو أربعين أثراً مكتوباً لابن ماجد). الجغرافيا البشرية. اهتم الجغرافيون المسلمون بالجوانب البشرية اهتمامًا كبيرًا، بحيث لانجد فرعًا من فروع الجغرافيا البشرية المعاصرة المتعارف عليها، إلا وكتبوا فيه، مثل الجغرافيا الاجتماعية والحضرية، ومن ذلك مقدمة ابن خلدون في القرن الثامن الهجري، وجغرافية المدن، والجغرافيا الطبية، والجغرافيا اللغوية والجغرافيا الدينية والجغرافيا الاقتصادية. وتأتي الكتابة في هذه الفروع من خلال النظرة الشمولية، كما في كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي، وصفة جزيرة العرب للهمداني، ورسائل إخوان الصفا وخلان الوفا. الخرائط. عرّف المسلمون الخريطة بأسماء عديدة منها: الصورة والرسم. وتميّزت خرائط المسلمين بخلوها من صور الحيوان والإنسان. ورسم المسلمون خرائط العالم والأقاليم وخرائط المدن. ومن أشهر خرائط المسلمين الخريطة المأمونية، وهي خريطة ملونة فاقت خريطة بطليموس. وعرف المسلمون الخرائط البحرية مثل خرائط أسرة الصفاقسي. ورسم المسلمون كذلك خرائط للمسجد الحرام والكعبة تحدد القبلة للأقاليم المختلفة، ويُعدُّ الإدريسي (493-560هـ) من أبرز علماء الخرائط عند المسلمين
أشهر الجغرافيين المسلمين - محمد عبد السلام
Admin- Admin
- المساهمات : 71
تاريخ التسجيل : 29/05/2011
- مساهمة رقم 1